كتبتُ على صفحتي بالفيسبوك يوم 3 فبراير في ذكرى رحيلها: (أم كلثوم من 49 سنة رحلت، فهل شعرتً يومًا أنها غابت)، والحق أن حضورها طوال هذه السنين يغلب كل غياب، وألقها يزداد تألقًا مع الأيام مهما دارت، وعن نفسي كان حضور أم كلثوم طاغيًا في كل غربة لي عن مصر أو فيها، يُشجيني صوتها أكثر ما يشجيني في (ليالي الغربة)، وليل الغربة طويل وثقيل ووحيد، يبدأ من الثامنة مساء حين كنت أنهي عملي، ولا ينتهي إلا مع شقشقة الفجر الأولى حيث يغلبني سلطان النوم، ويهزمني تحالف النعاس والارهاق.
في تلك الساعة من الربع الثالث من ليالي الغربة يأتيني صوتها مليئًا بلوعة الحب والصبابة، مسكونًا بالهجران، فيركبني الشوق حنينًا، ويتلبسني الحنين شوقًا، ويكاد يقتلني التوق إلى الضفة الأخرى من البحر.
في غربتي الأولى كنت في جزيرة قبرص، وأهلها ــ لمن لا يعلم ــ لهم عادات وخصائص أهل الجزر، منغلقون على أنفسهم، هيابون للذي يأتي من المجهول، من عتمة الماء، وبعد الثامنة مساء كنتَ تمشي في شوارع (نيقوسيا) فلا تجد صريخ ابن يومين، فقط سيارات بكل الطرز وبكل الألوان تمر بجانبك كالبرق.
نيقوسيا عاصمة للصمت ومدينة لا تعرف المشاة، كنت أتلذذ بالمشي ــ وحدي دون شريك ــ تحت وابل من المطر، ووسط أجواء من الصقيع، أتسكع أمام واجهات المحلات، أو أقف مشدودًا إلى طراز معماري، أجري هائمًا على وجهي، يدفعني شعور الوحدة باتجاه البحث عن (ونيس) لا أجده، ومن جديد تحط رحالي في بيتي منهوك القوى وحيدًا مع صوت أم كلثوم، وأغمض عيني على صوتها يصدح:
(سهران لوحدي أناجي طيفك الساري، سابح بوجدي، ودمعي ع الخدود جاري).
**
في تلك الساعة من ساعات الليل كنت أمضي إلى يوسف في جوف البئر، أشد على يده، أعانقه وأمسح عن عينيه الحزن وأبشره بملك مصر تجري من تحته الأنهار والأحد عشر كوكبًا يجيئونه سجدًا، كان يسألني: ما بال النسوة اللائي قطعن أيديهن؟ وكنت أطمئن قلبه، وأشد من أزره، وهمست إليه أن زوجة العزيز سوف تقر بإدانتها وسوف تعترف له بالبراءة، وسيشهد شاهد من أهلها إن (كيدهن عظيم) وسيرفعك الملك إليه، ويجلسك على العرش، كنت أواسي نفسي فيه، وأمسك حلمي حتى لا يفلت من يدي.
وكان صوت أم كلثوم يعيدني إلى شجني وشوقي وكل حنيني.
كل يوم في تلك الساعة من ساعات الليل كنت أشد رحالي إلى يونس في بطن الحوت، فوقه ماء وتحته ماء، تحيط به ظلمة الغربة، وغربة النفس عما يُحيط بها، يملأه اليأس وتلعب به الظنون، أحكي له الحكايات، وأقص عليه نبأ الذين تغربوا من قبل ومن بعد، ولكنهم تمسكوا بحلمهم، وأمسكوا بقدرتهم على تحقيق أسطورتهم الذاتية، كنت أقول له: استمع إلى قلبك واستفته، توغل في وحدتك برفق، وعاشر غربتك بالمعروف، ولا تنسى أن يومًا سيجيئ، وأنت تشق بطن الحوت إلى الرحابة، حيث العالم فسيحًا، والناس تلتف حولك ويأتينك الرجال سعيًا.
كنت أقهر طول الليل، ووحدتي وشجني وشوقي والساعات الأولى من فجر كل يوم في الغربة بالحديث إلى كل الغرباء، والاستئناس بــ (يونس) و (يوسف)، بأشهر من عانوا الوحدة والغربة في تاريخ البشرية.
وكان صوت أم كلثوم يمنحني العافية، ويذكرني بالشطوط التي هربت من تحت أقدامي، وبالبحار التي من خلفي، وبأعداء من أمامي يترصدون خطوي، وبأنه لا منجا ولا ملجأ لي من الغربة إلا بالعودة.
**
في تلك الساعة من أيام الغربة كان صوت أم كلثوم يحملني إلى ملاعب الصبا، ويدخلني الى الحواري الشعبية، يحملني الى شوارع المهندسين وجاردن سيتي، كان يهيج فيّ كل الشوق إلى كل الناس، إلى الأصدقاء الذين غابت صورتهم، أو غأمت، وإلى الأصدقاء الذين لا تزال صورهم محفورة في القلب، إلى الحبيب الذي هجر، إلى المحبوب الذي مازال يملأ فضاء القلب والخيال.
كان صوت أم كلثوم يبعث كل هؤلاء أمامي بشرًا سويًا، يبث فيهم الحياة، وينعش الذاكرة بكل التفاصيل، وبشتى الصور: بإيماءة سلبت لبي، وبابتسامة ردت إليّ قلبي، بدعوات أمي وهي عارية الرأس: (إلهي يحبب فيك خلقه، حتى الحصى في أرضه)، بتنورة أول حب بريء ترفعها ريح عابثة، وما تزال تسكن ذاكرتي لا تبرحها، بساعة (الصبحية) ونحن في الطريق إلى المدرسة، بطبق الفول على (عربة) بشارع جانبي، بعم (جودة) فراش المدرسة، بي وأنا أمسك المذياع لكي ألقي على الطابور حكمة الصباح بصوت مسرسع، وبريء: (من جد وجد، ومن زرع حصد)، بأيام (الشقاوة) وبليالي الشقاء، بعبث الصغار وتعب الكبار، بأعواد القصب في ليالي الشتاء حول وابور الجاز، بيدٍ توقظني في جوف الليل: (قوم اتسحر) ، بنشيد: الله اكبر.. فوق كيد المعتدي، بأصواتنا تعلو إلى عنان السماء في طابور الصباح: عاشت الجمهورية العربية المتحدة، بمظاهراتنا وهتافاتنا: (سيد مرعي يا سيد بيه كيلو اللحمة بقي بجنيه)، بشارع الجامعة، وشارع (الضباب)، بالشوارع الخلفية أمسك يد صغيرتي وينبض داخلي الحب الأول، واللمسة الأولى، والقبلة الطازجة، بأول مرة قلت فيها: أحبك، بالتسكع على الكورنيش بالإسكندرية، بساندويتش فول بالزيت الحار.
كانت الصور بكل ظلالها واضاءاتها تجيء مع صوتها بالليل، وكانت التفاصيل بكل ملامحها، بكل رتوشها، حلوها ومرها، كانت كلها تجيء مع صوتها، كان كل ذلك وأكثر منه يجيء مع صوت أم كلثوم في تلك الساعة من ليالي الغربة.
**
ليل الغربة طويل ووحيد وكثيف وصوت أم كلثوم أنيس وحدتي وشجني وشوقي الذي لا تخمد ناره، ولا أذكر أنني عمدت إلى سماع صوت أم كلثوم في أيام وليالي القاهرة، دائمًا يجيئني صوتها في أي وقت عبر مذياع الجيران أو ساعة العصاري عبر المحطة الاذاعية المسماة باسمها، ولكني أبدًا ما وضعت المسجل أمامي وأصغيت إلى صوتها منه إلا في ليالي الغربة.
في مصر يتبعني كظلي صوت فيروز، أسمعه وأنا أكتب شعرًا أو نثرًا، وأسمعه وأنا في الحمام، وأنا في حجرة النوم، في السيارة، أو في العمل، في كل مكان وزمان القاهرة يعيش معي صوت فيروز، إلا في الغربة يستحوذ عليّ صوت أم كلثوم ولا يفسح لغيره مجالًا إلا في أضيق الحدود.
صوتها وحده الذي يخمد نار الحنين عندي، ويوقدها، صوتها وحده هو الذي يطفئ لوعة الشوق لديّ، ويشعلها، صوتها وحده الذي يجعل دمعي يسّاقط، ويجففه، صوتها وحده الذي يقدم ملخصًا وافيًا وعبقريًا لمصر في الغربة:
شمس الأصيل ذهبت خوص النخيل يا نيل
تحفة ومصورة من صفحتك يا جميل
وفي القاهرة، وبعد العودة، تعود أشرطة الكاسيت إلى مخبئها، ويلعلع صوت عبد الحليم ليملأ ساحة القلب:
بالأحضان يا حبيبتي يا أمي، يا بلادي يا غنيوه ف دمي، على صدرك أرتاح من همي، وارجع اخدك بالأحضان.
**